الفكر الإسلامي

 

الردّ على الاعتراض على السفر لزيارة قبر النبي

 

 

بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي

المعروف بـ Kحكيم الأمةJ المتوفى 1362هـ / 1943م

تعريب : أبو أسامة نور

  

 

  

 

 

       ذات مرة جرت مناظرة بين الشيخ الحاج إمداد الله المهاجر المكي (1233-1317هـ = 1817-1899م) وبين رجل من أهل الحديث متشدّد كان يرى المنع من التوجّه إلى المدينة المنورة رأسًا لزيارة قبر المصطفى ، مُسْتَدِلاًّ بأنّه «لا تُشَدُّ الرِّحالُ إِلاَّ إِلى ثلاثة مساجد» (1) قال الحاج: أولا يجوز السفرُ لزيارة الأبوين وطلب العلم وما إلى ذلك ؟ فلم يحر الرجلُ جوابًا . ثم راح يقول: إذا جاز فإنه لايكون فرضًا أو واجبًا حتى يكون المعنيّ به مضطرًّا للقيام به . قال الحاج : إنه لايكون فرضًا في الشريعة ؛ ولكنه فرض في شريعة الحبّ . إن سليمان عليه السلام بنى بيت المقدس فصار قبلة ، وبنى إبراهيم مسجدًا فأصبح قبلة. وبنى محمد مسجدًا كذلك أفلا يجوز أن يتوجّه إليه الناس للزيارة؟. إن محمدًا كان يتمتع بشأن العبودية وكان يكره الشهرة ، فلم يكن مسجده قبلة . قال الرجل : إن السفر لزيارة مسجد الرسول جائز ألبتة ؛ ولكنه لايجوز بقصد زيارة قبره . قال الحاج : من أين اكتسب المسجدُ الفضيلةَ ؟ ، إنما اكتسبها عن طريقه ، فكيف يجوز أن يجوز السفر لزيارة المسجد ولايجوز لزيارة من اكتسبَ الفضيلةَ من أجله . إنه عجب لا عجب بعده . فأُفْحِمَ الرجل ولازم السكوتَ .

       فإن قال أحد : إنه لاتحصل زيارته وإنما تحصل زيارة قبره ، فالجواب أنه قال بنفسه: «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي» (2). وبعد ذلك قال الحاجّ – رحمه الله – تأمَّل معنى الآية الكريمة : «اِهْدِنَا الصِّرَاطَ المستقيم» لدى قراءتك إيّاها ، وادعُ الله أن يهديك الصراطَ المستقيمَ . قال الرجل : لاحاجة بي إلى توجيه بهذا الشأن . قال الحاج : لابأسَ بالدعاء ، إننا أيضًا ندعو الله أن يهدينا الصراطَ المستقيمَ إذا لم نكن عليه .

الحق الذي يجب علينا تجاهه

       من حقه علينا أن نتشرف بزيارة قبره الشريف ، ولا سيما الذين حُرِمُوا زيارتَه في حياته ، أحقّ بأن يزورا قبره بعد مماته ، حتى يسعدوا بالبركة والسعادة اللتين لن تعدلا البركة والسعادة الحاصلتين من زيارة شخصه وهو حيّ، ولكنهما قريبتان منهما دونما شكّ ؛ فقد جاء في الحديث : «من زارني بعد موتى، فكأنما زارني في حياتي» مما يعني أن شخصه بدوره جدير بالاعتناء . لو كانت علاقتنا به لكونه مُبَلِّغًا فقط ، لما سُنَّت زيارة قبره ، لأن التبليغ لايتحقق بعد مماته . من المؤسف أنه يوجد هناك من لايعتبرون زيارة قبره فضيلةً وإنما يرونها لاتجوز .

قصة وقعت في «كانبور»

       في مدينة «كانبور» جرى امتحان للصغار في أربعين حديثًا مُتَرْجَمًا بالأردية. وفي الحفل الذي انعقد على هامش مناسبة الامتحان كان بين الحضور رجل يرى عدم جواز زيارة قبر الرسول . وبُدئ امتحان طفل فاتفق أنه قرأ الحديث: «من حَجَّ ولم يزرني فقد جفاني» (3) فقَال الرجل : «لم يزرني» يدلّ على أنّ هذه الزيارة تتعلق بالحياة؛  فلم تثبت الزيارة بعد الممات . وكان الطفل المُمْتَحَنُ صغيرًا ، فلم يَعِ الاعتراضَ، فلم يدرِ الجوابَ ، فمضى يقرأ الحديث التالي ببراءته . ومن المفاجأة العجيبة أن الحديث الآتي كان ردًّا على الاعتراض الذي أثاره الرجل وهو : «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي» . فقال جميع العلماء الحضور للرجل : ها هوذا جاء ردًّا على اعتراضك ، وكأن الله كفى الطفلَ الردَّ ؛ فَأُفْحِمَ الرجل .

اعتراضٌ والردُّ عليه

       بعض الناس يقولون: الآن لاتتحقق حتى زيارة قبره الشريف ؛ لأنه أصبح مخفيًا عن أعين الناس ؛ حيث أقيم حوله جدار من الحجارة لايوجد فيه منفذ . وذلك اعتراض لايقوم على أساس ؛ لأن الزيارة لاتتوقف على رؤية القبر. وإذا سُلِّم هذا الاعتراض لزم أن لا تتحقق زيارة شخصه حتى في حياته لمن كان كفيف البصر؛ فقد كان بعض الصحابة كفيفًا . وكذلك النساء كن لا يرينه . إن الصحبة تتحقق بالزيارة الحكمية، كذلك تتحقق الزيارة بزيارة القبر زيارة حكمية ، أي بالوصول إلى مكان إذا لم يوجد حائل لأمكن فيه رؤية القبر.

قول مالك والردّ عليه

       وهناك شبهة تُثار بقول الإمام مالك – رحمه الله – وهو : «يكره قول الرجل : زرتُ قبر النبيّ عليه السلام» والشبهة المثارة : إذا كان القول هذا مكروهًا ، فكيف لا يكون العمل مكروهًا؟. والجواب : إنّ قول مالك ليس بثابت أولاً . ولو ثبت لما كان معناه ما فهمتموه وإلاّ لما احتاج إلى الإطالة ؛ بل كان له أن يقول: يكره زيارة قبر النبي عليه السلام» إنما يعني الإمام أنه حيّ في قبره ؛ فلا ينبغي لأحد زار قبره أن يقول: زرتُ قبره . إن هناك أناسًا لايحِنّون فقط إلى زيارة قبره ، وإنما يُحَرِّمُونَها حتى يمنعوا الآخرين منها .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رجب المرجب 1428هـ = يوليو – أغسطس  2007م ، العـدد : 7 ، السنـة : 31.

 



(1)          لاتُشَدُّ الرِّحالُ إلاّ إلى ثلاثة مساجد .

            أخرجه البخاري (كتاب الصوم، باب صوم يوم النّحر: 1995) عن أبي سعيد الخدري . وأخرجه الترمذي (كتاب الصّلاة ، باب ما جاء في أيّ المساجد أفضل : 326) عن أبي سعيد الخدري .

(2)          من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي .

            أخرجه الدارقطني (كتاب الحج: 2667) عن حاطب في هامش الدار قطني: إسناده ضعيف جدًّا .

(3) من حجّ ولم يزرني فقد جفاني .

            قال العَجَلُوْنِيْ في Mكشف الخفا ومزيل الإلباسL ص:320 : قال Mالصَّغاني: قال العلماء كابن الجوزي موضوع، لكن ذكره بلفظ Mمن حجّ البيتL – الحديث ، لكن قال الحافظ حجر في تخريج أحاديث Mمسند الفردوسL أسنده عن ابن عمر وهو عند ابن عديّ في (الكامل : 7، 14) وابنِ حِبّان في (الضّعفاء: 3، 73) وفي Mغرائب مالكL للدار قطني، وفي الرّواة عن مالك للخطيب انتهى . ومع هذا فلا ينبغي الحكمُ عليه بالوضع .